رؤية شاعر، لطارق سليمان النعناعي

﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾؛ صدق الله العظيم!
الأحاسيس والمشاعر الإنسانية ضالة في نفس الإنسان يهديها الشاعر سبيل القصيد، مظلمة كئيبة في كهوف النفس يخرجها الشاعر إلى قصور البيان وبهجته وبهائه وألحانه.
قُلْتُ الشِّعْرُ إِحْسَاسٌ
كَشْفُ الْقَلْبِ وَالسَّاتِرْ
إِذْ أَنْحُو تِجَاهَ الرُّوحِ السَّارِي مَعَ الْخَاطِرْ
إِحْسَاسِي فَمُسْتَثْنًى
وَالزَّهْرَاتُ وَالْهَادِرْ

فالشعر شعور وإحساس لكائن مرهف الحس، ينتمي إلى البشر، بما لهم وما عليهم، والشاعر الصادق هو من يعبر بدقة وصدق عما للإنسان وما عليه، ولا يعني هذا أن يتخلى عن اللغة وألحانها؛ فليس الحفاظ على رصانة اللغة وموسيقى الشعر شيئا من التقليد؛ فتحدي التجديد يكون في المعاني والخيال والبناء الفني أولا، وهذا هو الأصعب، وموسيقى الشعر هي توأم الروح لمعانيه، لا ينفصل أحدهما عن الآخر إلا بانتهاء حياة أحدهما، والموت أسهل من الحياة. فموسيقى الشعر تحتاج إلى قدرة خاصة يمتلكها الشعراء، فاللغة والموسيقى علمان لازمان للشاعر. وليسع الشاعر إلى التجديد في الموسيقى – كيف شاء – بما لا يخرجها عن النغم، أو بما يبقي عليها بوصفها موسيقى. وكلما كان الشاعر صادقا في تعبيره كان أقرب إلى غيره من البشر بإشراكه جميع البشر في تجربته الخاصة، التي تنتقل من تجربة شخص إلى تجربة بشرية عامة. فالإغراق في الشخصية في الشعر مثل الإغراق في المحلية في العمل الروائي، ينقل العمل إلى العالمية.
ترددت كثيرا في كتابة هذه الرؤية لعدة أسباب، منها: أن الشاعر يتطور ويغير من وجهته في الشعر والحياة، وقد ينحو نحوًا في مجموعة شعرية، ثم ينحو نحوًا آخر في غيرها، وقد يتبنى وجهة ما في وقت، ثم يتخلى عنها في وقت آخر …
ومنها أن الشاعر قد يُضطر إلى التصريح ببعض الأشياء التي تعد شرحا لشيء من شعره وهذا مما يُعاب عليه. وكلا السببين السابقين يمكن مناقشتهما: فالأول مشكلة عند المتلقي وليس مشكلة عند الشاعر؛ إذ ينبغي أن يستقبل القارئ أو الناقد وجهة نظر الشاعر مرتبطة بوقتها وحينها، وأن يتقبل دور التطور والتجدد في شخصية الشاعر ووجهة نظره. ومجموعة ” وريقات توت ” وسابقتها ” حفيف الصمت ” تؤسسان للدمج بين مدرستي أبولو أو مدرسة المهجر ومدرسة الديوان، بما يمكن أن يطلق عليه مدرسة” مَهْجَوَان ” أو ” دِيوَهْجَر” أو ” أَبُولْوَان ” أو ” دِيوَالُّو “. وتحاول المدرسة الجديدة الجمع بين مناقب المدرستين السابقتين وتتلافى مثالبهما، فتجمع بين الحسنيين.
والثاني مشكلة عند الشاعر لا عند المتلقي؛ لأن الشاعر الذي يضطر إلى شرح شعره بين احتمالين:
إما أن شعره ملغز ولا يحوي أدوات التحليل اللغوي والأسلوبي التي تعين القارئ أو الناقد على أن يصل إلى مغزاه. وهذا عيب خطير في الشعر، ولا سيما في بعض الشعر المعاصر، عيب يخرج الشعر والشاعر كليهما من دائرة الإبداع والإمتاع، ويدخلهما في دائرة العبث والتدليس على القراء والنقاد.
وإما أن الشعر يحوي أدواته الفنية اللغوية والأسلوبية، وفي هذه الحال يخطئ الشاعر إذا شرح شيئا منها؛ لأنه في هذه الحال يفقد القارئ والناقد متعة الاجتهاد في الوصول إلى المعاني وصولا معرفيا خاصا، ويحصر خيال الاثنين معا في جانب واحد من احتمالات المعاني التي يحتملها الأسلوب أو اللغة أو الصور أو الأدوات الفنية الخاصة.
فالشرح المباشر للشعر من قبل الشاعر مرفوض إذًا، وعلى الشاعر الجيد أن يضمن شعره أدواته الفنية التي تعين القارئ والناقد على الوصول إلى المعاني الكامنة والغاية المرتجاة. وإن تكلم الشاعر عن شعره فالجائز له أن يقف عند حد عتبات النص، أو ما وراء النص الشعري، مثل المكان أو الزمان، أو السياق غير اللغوي للنص، وما يشبه ذلك … مثل: مفهوم الشعر عند الشاعر، وتاريخه الشعري الخاص والعام … وعلى سبيل المثال: أستطيع أن أنفي شيئا في هذا الإطار، وأن أثبت آخر: فأما المنفي فهو أن يكون عنوان المجموعة عنوانا لقصيدة فيها فحسب، وألا يتخطى ذلك إلى معان أُخَر، والحقيقة أنه يشمل قصائد المجموعة كلها، على الرغم من أنه يمثل – فعلا – عنوانا لإحدى قصائدها. هذا ما فعلته في هذه المجموعة ” وُرَيْقَات تُوتٍ “ØŒ وما فعلته كذلك فـي المجموعة السابقة ” حَفِيف الصَّمْتِ “Ø› وعلى القارئ والناقد كليهما أن يفطنا وحدهما إلى دلالة ذلك. وأما المثبت في الإطار نفسه، فهو أن قصائد هذه المجموعة كلها، بلا استثناء، كتبت في سلطنة عمان في العاصمة مسقط، في أثناء إعارتي إلى قسم اللغة العربية وآدابها، بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية، من جامعة السلطان قابوس.
هذا خاص بالبيئة التي كتبت فيها مجموعة ” وريقات توت ” ØŒ بيد أن قصائد منها تسبق الزمان والمكان، مثل: قصيدة ” ظل ” (وكانت جزءا من مجموعة شعرية قديمة فقدت أغلبها) كتبتها في مصر في مرحلة دراستي الثانوية وأهملتها وكدت أن أنساها، ولكني عدت إليها فهذبتها وأضفت إليها، وقصيدة ” نهر ” التي تسبق فكرتها الزمان والمكان، وكذلك ” ســيرة قلب “ØŒ Ùˆ” كهـــف ” Ùˆ” غريــب ” Ùˆ” عصــفور الغبار ” Ùˆ” شطرنج “ØŒ فمنها ما بدأ في مصر وانتهى فيها، ومنها ما امتد إلى ألمانيا، ومنها خيال. أما ” أغار ” فأحدثها وجاءت من وحي عمان وجبالها، وبعد رحلتي إلى ” وادي بني خالد ” وكهف ” مُقل “. وأما القصائد الأخرى فكانت منصهرة الزمان والمكان لكي تبقى منصهرة، أو لكي تجمد لدى قارئ أو ناقد في زمان ومكان محددين. ومنها حالات إنسانية ومواقف بشرية يشترك فيها كل البشر، ويقف الشاعر وحده ليعبر عنها وعنهم وعن نفسه، بما لا يستطيع أحد غيره أن يعبر، أو أن يغوص مثله في قاع البحار ليستخرج لؤلؤته، أو يتسلق أعلى الجبال ليقطف زهرته، أو يعرج إلى السماء فيعود بنجمته.
فأدعو الله عز وجل ألا يذهب شعري جُفَاءً وأن يمكثَ في الأرض فيستمتع به الناس وينتفعوا به، ويكون شاهدا لي لا عليَّ، هو نعم المولى ونعم النصير.

Related posts

Leave a Comment